لا مراء ان الانتماءات الفكرية والايديولوجية لم تكن مطروحة اثناء الثورة حيث كان المعيار في تقسيم المجتمع هو الانتماء لحزب التجمع الحاكم سابقا من عدمه وكان بذلك السواد الاعظم من التونسيين متحدين همهم الاكبر قطع اوصال الديكتاتورية التي عانوا منها ومن ويلاتها لاكثر من نصف قرن لكن ما فتئت بعد 14 جانفي 2011 بعد ان زادت جرعة المطالب السياسية للشعب الثائر ضد الفساد والاستبداد وبدء اجتياح تسونامي الاحزاب للساحة السياسية ان تظهر الصراعات الايديولوجية في الوقت الذي بدأ فيه الجميع يتحدث عن ثورة مضادة يقودها ازلام النظام البائد وهو ما دفع الكثير للاستنتاج بأن هذه الصراعات هي من صناعة هؤلاء حتى يعملوا على تشتيت اراء التونسيين وتقسيمهم وبالتالي ضرب وحدتهم وفي ذلك طبعا محاولة لدحض الثورة وعودة جسد النظام الذي لم يقطع منه الا الرأس للمسك بزمام الحكم من جديد.
ولفترة ما هدأت هذه التجاذبات التي آلت الى تكفير الاسلاميين للعلمانيين واتهام العلمانيين للاسلامين بالرجعية ومعاداة الحرية التي قامت من اجلها الثورة وبالتالي السعي الى العودة بتونس الى مربع القمع والاستبداد وان كان بشكل اخر ورغم تناقل انباء من هنا وهناك عن ممارسات وسلوكات لبعض المنتمين للتيارات الاسلامية المعروفة بالتطرف والتشدد مست من الحرية الشخصية للمواطنين كتهديد غير المتحجبات في الشارع كذلك السياح على الشواطئ الى جانب الهجوم على بعض المعاهد خلال حفلات نهاية السنة بدعوى ان هذه الحفلات حرام هذا زيادة على بعض الافعال الاخرى التي تناقلتها الالسن منددة ومستنكرة اذا رغم كل هذا لم تأخذ هذه الاحداث نصيبا وافرا من اهتمام الراي العام ولم يقع تسليط الضوء عليها بشكل كبير لكن عادت في الفترة الاخيرة هذه الصراعات بل وحمي وطيسها بعرض فيلم نادية الفاني "لا ربي لا سيدي" حيث اعتبره الاسلاميون استفزازا لهم ومسا بالمقدس وهو ما دفع بمجموعة من المنتمين للتيار السلفي وغيره الى التهجم على قاعة السينما افريكا حيث يعرض الفيلم واستعمال العنف المادي ثم قاموا ايضا بتعنيف بعض المحامين امام قصر العدالة بالعاصمة وخلال الحادثين لم يتدخل الامن الا متاخرا سيما وانه في حادثة افريكا او ما سمي "بغزوة افريكا" تدخل الامن بعد ساعة من الزمن رغم ان وزارة الداخلية لا تبعد عن المكان الا بعض الامتار فقط وهو ما طرح عديد التساؤلات واثار عديد الشكوك ايضا...علاوة على ان الفيلم دعمته وزارة الثقافة التي مازال يسير دواليبها ازلام الرئيس المخلوع بملايين الدينارات كان من المفروض ان يقع استثمارها في مناحي اخرى اهم كما ان توقيت عرضه لا يتناسب وطبيعة المرحلة المتسمة بعدم الاستقرار على الواجهة الامنية وغيرها من الواجهات..
انقسمت بذلك ردود الفعل ازاء ما حصل بين اصوات تعالت للدفاع عن المقدس واخرى لنبذ التطرف والتعصب وتجسد هذا الانقسام في مسيرات واحتجاجات ببعض الجهات في البلاد تنديدا بالمس من المقدس وبالهوية الاسلامية للشعب التونسي وقع خلال احداها انزال العلم التونسي ورفع مكانه العلم الاسود.. كما قام شق اخر من التونسيين بوقفات احتجاجية تنديدا بردود الفعل العنيفة والمتطرفة والمس من حرية الابداع كالتي نظمت السبت الفارط امام المسرح البلدي بالعاصمة ومن الشعارات المرفوعة فيها لا للتطرف لا لتحويل تونس الى تونستان.. هذه الوقفة الاحتجاجية لم تخل من حضور بعض ممن يسمون بالمتطرفين دينيا احتجاجا على هذه الحركة واعتبارها وقفة ضد الدين الاسلامي وليست ضد العنف والتطرف...
من جهة اخرى وقع الاعتداء بالعنف على مناضلي ومناضلات حزب العمال الشيوعي اخر الاسبوع الفارط خلال استعدادهم تنظيم اجتماعهم الحزبي بالقاعة المغطاة بحي التضامن واتهم رئيس الحزب حمة الهمامي البوليس السياسي والتيار السلفي بالضلوع وراء هذا الحادث وهو نفس ما ذهب اليه شكري بلعيد منسق حركة الوطنيين الديمقراطيين الذي اعتبر ايضا ما حصل هو بغاية جر البلاد الى العنف وسط صمت الاجهزة الامنية والحكومة المؤقتة كما انه جاء بعد انسحاب حركة النهضة من الهيئة العليا لتحقيق اهداف الثورة والاصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي وبعد التصريحات النارية لراشد الغنوشي هذا الربط ايضا بانسحاب النهضة وبما قامت به التيارات الاسلامية المتشددة عبر عنه الكثيرون خصوصا على مواقع شبكات التواصل الاجتماعي التي تعتبر ساحة النزاع الرئيسية للاطراف المتصارعة.
وبين هذه المواقف وتلك رأى البعض ان ما حصل من سلوكات محسوبة على السلفيين وحزب التحرير وغيرهم من الاسلاميين المتطرفين ليست الا من صنع البوليس السياسي او على الاقل في جزء كبير منها وهي عملية ممنهجة من بقايا النظام البائد والذي مازال الجهاز الامني تحت امرته لتحييد الشعب عن الاهتمام بقضاياه الجوهرية وضرب وحدته ودفعه للاهتمام بقضايا جانبية لا يمكن ان تخدم باي حال من الاحوال لا مصلحة الشعب ولا مسار الثورة المتعثر بطبعه وبالتالي فان بقايا نظام المخلوع حسب هذا الراي وحسب عديد المؤشرات هم من يقفون خلف كل الاطراف المتصارعة ويحركونها ويقفون بذلك خلف مختلف الاحداث والصراعات والتقسيمات التي اصبحت تطبع مجتمعنا بعد الثورة بين اسلامي وعلماني ويمين ويسار الى ما هنالك...
وهو ما فسح المجال لعودة التجمعيين الذين استفادوا من هذا الصراع ومن تلكؤ الحكومة في محاسبتهم ومقاضاتهم على ما الحقوه بالبلاد لعقود من الزمن من دنس بقوة الى الساحة السياسية ما جعل محمد جغام رئيس حزب الوطن المتفرع من حزب التجمع المنحل في لقاء تلفزيوني يقول ذلك علنا ويتوعد بفوز التجمعيين في انتخابات المجلس التأسيسي المزمع اجراءها يوم 23 اكتوبر 2011.... والمهدد هو الاخر بعملية تجويف وتجريده من صلاحياته.
ولهذا هناك من اعتبر ان السحر انقلب على الساحر وان التجاذبات المخطط لها بين الاسلاميين والعلمانيين لن تزيد التونسي الا اصرارا على مواصلة النضال والتصدي لكل محاولات الالتفاف على الثورة حيث نظم اهالي منزل بوزيان في مطلع هذا الاسبوع مسيرة سلمية احتجاجا على تصريحات محمد جغام وسياسة الحكومة المؤقتة بقيادة الباجي قايد السبسي والتي بصدد البرهنة من حين لاخر انها شريكة في عملية محاولة اجهاض الثورة والتنكر لمطالب الشعب حسب الكثير من المواطنين فوقعت بذلك دعوات للتعقل والانتصار للمشترك بين الجميع ولتجاوز هذه التقسيمات والانقسامات التي لن تستفيد منها الا قوى الثورة المضادة فيصار بذلك الى توحيد الصفوف وعدم الوقوع في اي فخ يمكن ان تنصبه الاطراف المعادية لثورة شعبنا سواء داخل الوطن او حتى خارجه المتربصة بنا وبكل الثورات في البلدان العربية الاخرى..
شادية السلطاني
جريدة الرسالة التونسية
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire